محمد العولقي
* و تتجلط الكلمات في نعيك يا عيدروس عبد الرحمن، ترتبك الأفلاك، و معها تتبعثر مجرة المفردات، و تهجر اللوعة مداراتها..
* لك فقط يا حلواني المقامات الرياضية الرفيعة تنتحر الأشواق، لا شيء بعدك يضبط وزن القافية، و قد كنت شاعرها بلا منازع، لا شيء يعدل ميزان محتواها و مبتغاها، و قد كنت أصل المقادير و فصلها، لا أحد يبني بيتا من قصيدة يسكنها نبضك المتمرد على التقاليد، و قد كنت وزنها و قافيتها و تفعيلات بحرها.
* بعدك لا شيء يعدل المزاج، أو يضبط السكر في دم تركيب المفردة الرياضية، طيور السلطنة الأدبية هجرت عشها، و حديقة الإبداع جفت، لا ينبت فيها أي زنبق، زهورها في غياب فلاحها لا تغري الفراشات..
* بعدك يا عيدروس كل شيء انفرط عقده، فن المقالة يتقاعد، و الشوق إلى الغوص في أحشاء بحرك بحثا عن الدر الكامن تقطعت سبله..
* آه يا عيدروس.. ما أقسى على النفس أن تنعي ذاتها، و الأكثر إيلاما أن يكبر حزني بداخلي حتى أصبح أشجارا ..
* سنوات بطعم العسل يا عيدروس و أنت تخوض بحارا و بحارا، وحدك كنت فيروزا للشطآن، تغوص في بحار ذواتنا المنكسرة و تعود إلينا محملا بالربيع في غير أوانه.
* لا أحد يشبهك يا عيدروس في محراب صمتك المتفجر (فحرة)، و لا أحد يجاريك في رد الفعل، حروفك و إن كانت تلالية الهوى و الهوية، هي الأثقل في الميزان الصرفي للصحافة الرياضية.
* تعلم يا عيدروس أن نعي الذات جلد و سلخ، في داخلي سرداب ألم و روضوض، في كياني مخيمات من عويل و مضارب من نحيب، كيف أنعيك و قد توغلت من زمان في مساماتي؟
كيف أرثيك يا ملك الصياغة و الشياكة السجعية و أنت تعيش تحت جلدي و تتغذى من قفصي الصدري؟
كيف أبكيك حرقة و قد سكبت كل عطر مواويلك الإعلامية في وريدي؟
* إلى أين الهروب من هذا الغروب الدامي يا عيدروس؟
النحيب وحده مأساة تعرفها..
العويل وحده سيناريو تراجيدي تكتبه دموع حراء تعرفها أيضا.
* يا عيدروس قيثارتي حزينة، لحنها المنغم صار ذكرى من لوعة، و تلك الربابة تبكيك لحنا، آه يا قمر عيدروس كم هو مروع أن تشتيكي من نحيبي أدمعي.
* في كل مرة يا عيدروس تلامس فينا كبرياء لا نعرف كنهه، و كلما أهديتنا أقراصا من عسلك الصافي المصفى لا نرتوي، شعارنا : المزيد من شرابك اللذيذ المستساغ، لم تتذمر و يضيق صدرك من تلصصنا على معملك و مطبخك الإبداعي، كنت تلبي نداء شهيتنا بمائدة حلوى منزلة من أعمق أعماقك..
* يا عيدروس كنت لنا الدافع، و الدواء الناجع، و الرهان النافع، ما مر يوم إلا و ترسم بالكلمات لحنا شجيا يلامس فينا الحنين إلى أمجاد اللغة الرفيعة ..
* أما و قد آخيت التراب، فلا بأس من انبعاث شوق من تحت الركام و رذاذ الغمام، أبكي فيك طل القمر السابح في ملكات السماء، أبكي فيك عبق الدهشة و أريج صدى السنين الحاكي.
* منذ أن استوطن الألم الساقط جسدك النحيل و جرحك الدامي أطول من الأيام، لكنها تبقى رحلة أخيرة ابتلاك الله فيها لتتطهر حتى من ذنوبنا تجاهك.
* ألا يكفي يا عيدروس أن أرثيك بنحيب (خنسائي) احتار من حولي في توصيفه:
قذى بعينيك أم بالعين عوار؟
* ألا يكفي يا عيدروس أن أمتهن كل أحزان ابن الرومي و التصق بوجع خالد يضغط على أنفاسي كلما لاح طيفك؟
* هكذا تختفي الظواهر المدهشة بنفس سرعة ظهورها، أكثر من أربعين عاما و عيدروس يعيش بيننا مثل نسمة الهواء العليل، يكتب فتتفجر الأوراق بين أنامله الذهبية بحارا و أنهارا، لم يكن يوما حجره عقيما، كان من النوع الذي يبعث فيك التأمل الفلسفي.
* لا أحد يشبه عيدروس، هو كتاب من نسخة واحدة فقط، و من حسن حظنا أن نسخته العدنية احتفظت بكل فواصل نبوغها.
* قلده الكثيرون، اقتربوا من مرآة محيطه، حفروا في جسد أرشيفه أخاديدا لمعرفة سر سحره الباتع، و في كل مرة تفشل المحاولات، و المسألة بالطبع جينات نادرة وهبها الله لعبده عيدروس.
* عيدروس لم يبز منافسيه في فنون العناوين المبتكرة ذات الإيقاع السجعي فحسب، لكنه كان حاويا تخرج المفردات من رأسه ساخنة مطحونة ممضوغة يسهل بلعها.
* لا أحد يشبه عيدروس في تبسيط المبسط و ترويض الصعاب و محاصرة المبهم، كان مثل الجواهرجي يطوع الكلمات و يصيغ المفردات، فتشعر أنك أمام معلقات مذهبة لا تسكن سوى وجدان الناس.
* عرفت عيدروس وقد كنت تلميذا غاويا يقتفي أثر شعراء القافية الرياضية، و أحببته كمعلم، احتفظت له بمساحة شاسعة من الود و الاحترام، عاصرته كزميل و أصبح مثل الملح و السكر لا غنى عنه مع قهوة أو شاي الصباح.
* طوى الردى عيدروس بعد دراما من العذاب، و هذه إرادة الله، كلنا راحلون و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الأكرام، ليس بوسعي أمام هذا المصاب الجلل سوى التواصي بحق المؤمن الصابر الذي إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله و إنا إليه راجعون.