
شووت – كووورة
من كان يظن أن فرانك لامبارد، الذي بدا قبل عامين فقط وكأنه على وشك الخروج نهائيًا من المشهد التدريبي، سيعود اليوم ليصبح أحد أبرز المدربين الإنجليز في دوري الدرجة الأولى، بل ويقود كوفنتري سيتي إلى صدارة الترتيب في رحلة ملهمة تعيد كتابة سيرته المهنية من جديد؟
عندما انتهت فترته الثانية المؤقتة في تشيلسي بنهاية مأساوية في أيار/مايو 2023، لم يكن هناك الكثير ممن يعتقدون أن أسطورة “البلوز” سيجد طريق العودة سريعًا إلى قمة اللعبة. فقد ترك لامبارد ستامفورد بريدج وسط خيبة أمل جماهيرية ونقد لاذع من وسائل الإعلام، بعدما فشل في إحداث أي تأثير حقيقي مع الفريق الذي لطالما اعتبر بيته الأول.
إلى جانب ذلك، كانت إقالته من تدريب إيفرتون في كانون الثانى/يناير من العام نفسه بمثابة ضربة قاصمة لصورته كمدرب صاعد. بدا لامبارد حينها كمن فقد البوصلة بين الطموح والتطبيق، بين المثالية والخبرة الميدانية.
لكن الزمن، كما في مسيرته كلاعب، كان على موعد جديد مع إصرار فرانك. فبعد فترة راحة طويلة امتدت لـ18 شهرًا، قرر في تشرين الثانى/نوفمبر 2024 العودة إلى المقاعد الفنية، ولكن بخطوة محسوبة إلى الوراء: تولي تدريب كوفنتري سيتي في دوري الدرجة الأولى الإنجليزي (التشامبيونشيب).
البداية المشكوك فيها.. وخطوة لا تحظى بالترحيب
لم يكن التعيين محل إجماع بين جماهير كوفنتري. على العكس، سادت الشكوك أجواء ملعب سي بي إس أرينا، حيث رأى كثيرون أن إدارة النادي لجأت إلى اسم لامع من أجل الدعاية أكثر من البحث عن حلول فنية حقيقية. كان الفريق وقتها في المركز السابع عشر، يبتعد بنقطتين فقط عن مناطق الهبوط، بعد إقالة المدرب المخضرم مارك روبينز، الذي صنع معهم رحلة الصعود في السنوات الماضية.
بداية لامبارد لم تكن وردية. واجه الفريق تعثرات في الأسابيع الأولى، لكن ما لبثت أن تحولت الصورة تدريجيًا. ومع دخول عام 2025، بدأ “السماء الزرقاء” يحلقون فعلاً. تصاعد الأداء، وتراكمت الانتصارات، وتبدلت الثقة المهزوزة إلى طاقة إيجابية جعلت الفريق ينافس بقوة على مراكز التصفيات المؤهلة إلى الدوري الممتاز.
ورغم أن الحلم تبخر في الأمتار الأخيرة بعد خسارة درامية أمام سندرلاند في نصف نهائي الملحق، بهدف قاتل في الدقيقة 122 سجله دانييل بالارد، فإن روح الفريق لم تُكسر. بل يمكن القول إن تلك الخيبة شكلت شرارة الثورة التي يعيشها كوفنتري هذا الموسم.
ومع انطلاق موسم 2025-2026، بدا لامبارد وفريقه وكأنهم وُلدوا من جديد. فبعد تسع مباريات فقط، يتصدر كوفنتري جدول دوري البطولة الإنجليزية بفضل كرة هجومية ممتعة تُعيد للأذهان أيام لامبارد في تشيلسي كلاعب وسط هداف.
في تلك المرحلة المبكرة من الموسم، سجل الفريق 27 هدفًا — أي أكثر بـ12 هدفًا من أقرب منافسيه — وحقق فارق أهداف مذهل بلغ +20. من أين جاء كل هذا الزخم؟ الجواب في الفلسفة التي أعاد بها فرانك بناء هويته الفنية.
فلسفة الهجوم بلا خوف
باعتباره أكثر لاعبي خط الوسط تسجيلًا في تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز (177 هدفًا)، كان طبيعيًا أن ينعكس هوس لامبارد بالتسجيل على أسلوبه التدريبي. فلسفته الآن أكثر وضوحًا من أي وقت مضى: الاستحواذ من أجل الإيذاء.
الفريق لا يكتفي بتمرير الكرة؛ بل يسعى باستمرار لاختراق المساحات وصناعة الفرص والتسديد. أرقام كوفنتري هي الأعلى في البطولة في التسديدات، وعدد المحاولات داخل منطقة الجزاء، والتسديدات على المرمى.
ويبدو أن كل شيء يسير وفق نظام متناغم في خطة 4-2-3-1 التي يعتمدها المدرب. يقود الأمريكي حاجي رايت خط الهجوم ببراعة، متصدرًا قائمة هدافي الدوري بـ8 أهداف في 9 مباريات، يسانده براندون توماس-أسانتي في مركز صانع الألعاب المتحرك، فيما يضيف فيكتور تورب لمسته الخاصة من العمق.
وليس ذلك فحسب، بل يتصدر الظهير الأيمن ميلان فان إيفيك ترتيب التمريرات الحاسمة في البطولة بخمس تمريرات، ما يعكس شمولية الأسلوب الهجومي الذي لا يعتمد على فرد واحد.
من دروس الماضي إلى توازن الحاضر
رغم أن الهجوم كان دائمًا السلاح المفضل للامبارد، إلا أن التجارب السابقة في تشيلسي وإيفرتون كشفت له ثغراته الدفاعية بوضوح. تعلم منها الدرس جيدًا، وها هو يطبق الإصلاح في كوفنتري.
النتيجة؟ منظومة دفاعية متماسكة بشكل لافت. فالفريق لم يستقبل سوى سبعة أهداف فقط حتى الآن، ثلاثة منها جاءت في مباراة واحدة انتهت بالفوز 5-3 أمام ديربي كاونتي.
ساهم في هذا التحسن خط الدفاع الصلب بقيادة بوبي توماس وليام كيتشينغ، إضافة إلى الحارس المعار من برايتون كارل راشوورث، الذي يمتلك أكبر عدد من الشباك النظيفة في المسابقة حتى اللحظة.
ويؤكد لامبارد في تصريح سابق لموقع فوتبول فوكس: “عندما وصلت، كان الفريق يستقبل الكثير من الأهداف. لم نكن متماسكين ولا عدوانيين بما يكفي، لذا ركزنا أولاً على العمل دون كرة. اللاعبون آمنوا بالأفكار وطبقوها بإخلاص، وهذه المجموعة من أكثر ما عملت معه تواضعًا وتفانيًا”.
بناء الثقة دون إنفاق
المثير أن لامبارد لم يعتمد على التعاقدات المكلفة، بل على إعادة الثقة للمجموعة الحالية. صحيح أن الفريق ضم الحارس راشوورث والمدافعين لوك وولفيندين وكاين كيسلر-هايدن، لكن التغيير الحقيقي جاء من الداخل.
عمل لامبارد على تطوير اللاعبين الموجودين، ومنحهم حرية التعبير عن قدراتهم دون تقييد، وهو ما يظهر في تصاعد مستوياتهم الفردية.
نجح المدرب أيضًا في الإبقاء على لاعبين مهمين مثل جاك رودوني وفان إيفيك رغم العروض التي انهالت عليهما في الصيف. فيما كان استقدام مات جرايمز في يناير الماضي نقطة تحول كبيرة، حيث منحه لامبارد شارة القيادة في سبتمبر، لتبدأ مرحلة جديدة من النضج الجماعي والانتصارات المتتالية.
يقول جرايمز لشبكة BBC CWR: “المدرب منحنا الثقة لنلعب بحرية، وفي الوقت نفسه يصر على التفاصيل الدقيقة. نحن نلعب بمزيج مثالي من الدقة والانطلاق، والنتائج تتحدث عن نفسها”.
تحت قيادة جرايمز، حصد كوفنتري 13 نقطة من أصل 15 ممكنة، وسجل 12 هدفًا دون أن يستقبل أي هدف في ثلاث مباريات متتالية — أرقام توضح حجم الانسجام والصلابة الذهنية داخل المجموعة.
من فريق واعد إلى منافس شرس
جاءت آخر حلقات التألق بالفوز الكاسح 5-0 على شيفيلد وينزداي، في مباراة هيمنت فيها كتيبة لامبارد على كل شبر من الملعب. أهداف رايت وتوماس-أسانتي أكدت أن الهجوم لا يتوقف، بينما بدا الفريق بأكمله كآلة منضبطة تعرف ما تفعله تمامًا.
ومع هذا الانتصار، أصبح كوفنتري الفريق الوحيد في إنجلترا — باستثناء مانشستر سيتي — الذي لم يتعرض للهزيمة هذا الموسم.
ذلك الفوز لم يكن مجرد ثلاث نقاط، بل إعلان رسمي بأن الفريق لم يعد مجرد مفاجأة مؤقتة، بل منافس حقيقي على بطاقات الصعود. أما لامبارد، فقد بدأ يتحدث بلهجة واثقة لكن متزنة: “قلت للاعبين قبل المباراة: عندما تلعبون جيدًا، لا تتركوا الأداء يفلت منكم. الفرق الكبرى تبني على الزخم، وقد رأيت هذه الروح في المجموعة، وهذا ما يصنع الفرق”.
طريق طويل.. لكن الحلم قريب
من المبكر طبعًا الحديث عن الصعود في دوري صعب مثل التشامبيونشيب، حيث يمكن أن تنقلب الأمور في غضون أسابيع. لكن المؤشرات كلها تسير في الاتجاه الصحيح.
فمن الآن وحتى 8 نوفمبر، لن يواجه كوفنتري أي فريق من الستة الأوائل حاليًا، ما يمنحهم فرصة ذهبية لتعزيز موقعهم قبل فترة التوقف الدولي. باستثناء مواجهة متوسطة المستوى أمام واتفورد، فإن جميع مبارياتهم القادمة تبدو متاحة للفوز.
لامبارد يدرك أن الحفاظ على الزخم هو المفتاح. يكرر دومًا في تصريحاته أن الفريق يجب أن “يعيش كل أسبوع على حدة”، وهي الجملة التي يستخدمها الآن كمانترا لغرف الملابس.
ربما لم يعد اسم فرانك لامبارد يثير الصخب نفسه كما في بداياته التدريبية مع ديربي أو تشيلسي، لكنه اليوم يثير الاحترام. لقد أعاد بناء نفسه على مهل، متخليًا عن غرور النجومية، ومتسلحًا بخبرة التجارب الفاشلة.
زميله السابق في تشيلسي ومنتخب إنجلترا غلين جونسون لخص القصة جيدًا حين قال لموقع 10Bet: “لامبارد الآن يثبت أنه تعلم من الماضي. دوري الدرجة الأولى مليء بالمنافسين، لكن كوفنتري فريق منظم ومتحمس. إذا حافظ على هذا الإيقاع، فلن أستغرب إن صعد بهم إلى الدوري الممتاز، أو حتى عاد بنفسه قريبًا إلى البريميرليج من بوابة فريق أكبر أو المنتخب الوطني”.
ما كان يبدو قبل عامين نهاية حزينة لمسيرة أسطورة تشيلسي تحول اليوم إلى قصة ملهمة عن الإصرار والنضوج. وبينما تتردد الهتافات في مدرجات كوفنتري، يبدو أن “البلوزي” الأنيق وجد أخيرًا المكان الذي يستحقه: على رأس مشروع ناجح، يُعيد تعريف معنى القيادة الهادئة، ويثبت أن السقوط ليس نهاية الطريق، بل بداية الرحلة الحقيقية.